- ندوات إذاعية
- /
- ٠12برنامج منهج التائبين - دار الفتوى
مقدمة :
الأستاذ زياد :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أيها الأخوة المستمعون ؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، نحييكم في مستهل حلقة جديدة من برنامج : "منهج التائبين" ، أرحب بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، معنا في هذا البرنامج ، أهلاً ومرحباً بكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الدكتور راتب :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
الأستاذ زياد :
فضيلة الشيخ ، ثمن العلاقة بين التوبة والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ، بل إن من أسباب ثبات التوبة النصوح الصادقة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ، كيف يكون ذلك ؟ وكيف لنا أن نوضح هذه العلاقة ؟
من خرج عن منهج ربه اختل توازنه :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
الحقيقة الأولى أن الإنسان فطر فطرة كاملة ، فالذي أمر به ، والذي نهي عنه متوافق توافقاً تاماً مع فطرته ، بل إن تطابق منهج الله مع فطرة الله تطابق ثابت وشامل وكامل وحتمي ، والدليل أن الله سبحانه وتعالى قال :
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه﴾
أن تقيم وجهك للدين حنيفاً هو نفسه البرنامج الذي فطر عليه الإنسان ، ماذا نستنتج من هذه الحقيقة التي تؤكدها هذه الآية ؟ أن الإنسان إذا خرج عن بنيته الفطرية ، إذا خرج عن منهج ربه فكلاهما واحد ، إذا خرج عن مبادئ فطرته ، أو خرج عن منهج ربه يعاني من حالة نفسية اسمها اختلال التوازن ، يختل توازنه ، ولا شيء أصعب على النفس من أن تنهار من داخلها ، قد يكون الإنسان أمام الخلق متماسكاً ، لكنه إذا كان منهاراً من الداخل نشأ عنده أمراض كثيرة ، تظهر بقسوة بالغة ، أو ردود فعل قاسية جداً ، تظهر بضياع ، وتشتت ، وصراع مزمن مع كآبة ، وما هذه الكآبة التي يتحدث عنها الناس إلا هي مظهر لخروج الإنسان عن مبادئ فطرته .ماذا ينبغي أن يفعل الإنسان إذا خرج عن مبادئ فطرته أو خرج عن منهج ربه وكلاهما واحد ؟
العلاج الناجع الذي يعالج به هذا الخلل هو أن تتوب إلى الله ، ولكن هناك من يحاول أن يستعيد هذا التوازن ، لا من خلال التوبة ، ولكن من خلال سوء الظن بالآخرين ، ليوهم نفسه أن الخطأ هو الأصل ، وأن الذين يظهرون للناس الصلاح ، وهم ليسوا كذلك ، هذا محاولة إصلاح الخلل ، ولكن محاولة ليست صحيحة ، أو أن يتعلق الإنسان بعقيدة زائغة لا أصل لها في الدين ليريح نفسه ، فبعض أهل الكتاب تعلقوا بأنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة ، والمسلمون تعلقوا بمفهوم للشفاعة ساذج ، افعل ما شئت ، والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم يشفع لك .
الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم :
الحقيقة أن التعلق بعقيدة زائغة ، أو سوء الظن بالآخرين مسلكان خاطئان لاستعادة التوازن الذي اختل من خروج الإنسان عن منهج ربه ، أو عن مبادئ فطرته ، هذا إن لم يكن المرء داعية إلى الله ، إن كان مؤمناً من مجموع المؤمنين ، مسلماً من مجموع المسلمين ، كيف إذا دعا إلى الله ولم يطبق ما يدعو إليه ؟ أعتقد أن الخلل الذي سوف يعاني منه أضعافاً مضاعفة .
ورد في بعض الآثار : "ابن آدم عظ نفسك فإذا وعظتها فعظ غيرك وإلا فاستحِ مني":
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ذاك لعمري في المقال شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطـعتـــه إن المحب لـمن يحب يطيــع
***
أول مفاجأة لعل الأخوة المستمعين قد يفاجؤون بها أن الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم ، وكل مسلم لا يدعو إلى الله هو لا يتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكل من لا يتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في حقيقة الأمر لا يحب الله ، وليس في الدين مجال كي ندلي بآراء شخصية ، إن هذا العلم دين ، دين الله ، ولا يسعه إلا النص الصحيح الموثق الواضح الدلالة .
الأستاذ زياد :
يقولون : إن الدعوة في حق كل مؤمن فرض عين ، ولكن بتوضيح بسيط في حدود ما يعلم .
الدعوة إلى الله دعوتان :
الدكتور راتب :في حدود ما يعلم ، ومع من يعرف ، ما كلفك الله أن تكون عالماً كبيراً ، ولا أن تحمل أعلى شهادة في الشريعة ، ولا أن تكون خطيباً مفوّهاً ، أنت كمسلم في أي مستوى ثقافي ، وفي أي حرفة أنت فيها أنت مكلف بدعوة إلى الله من نوع فرض العين ، وسوف آتي بعد قليل على الدعوة إلى الله التي هي فرض كفاية .
أنا الآن أتحدث عن الدعوة إلى الله كفرض عين ، لابد من أن تدعو إلى الله ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( بلغوا عني ولو آية ))
فيا رب مبلغ أوعى من سامع ، ولقول الله عز وجل :﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾
فمن لم يدعُ إلى الله على بصيرة ، وكلمة بصيرة أن تدعو إلى الله بالدليل ، وبالتعليل ، وبأسلوب علمي ، وباللطف والإحسان .﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
ادع إلى الله على بصيرة كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأساليبه اللغوية، والعلمية ، والتربوية ، والاجتماعية .فمن لم يدعُ إلى الله على بصيرة فليس متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن لم يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس محباً لله بدليل قوله تعالى :
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾
الأمر واضح كالشمس ، لكن هذه الدعوة التي هي فرض عين لا يطالب المسلم بها إلا في حدود ما سمعه من الحق ، ونحن في هذا الدين العظيم عندنا عبادة تعليمية هي خطبة الجمعة ، وأخوتنا الكرام يتوهمون أنهم إذا دخلوا إلى المسجد عقب انتهاء الخطبة ، وتابعوا مع الإمام ركعتين يتوهمون أنهم أدوا هذه الفريضة ، وأنا أصر على أن هذه الفريضة لم تؤدَّ بالمعنى الذي أراده الله ، ذلك أن الله عز وجل حينما قال :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ﴾
أجمع علماء التفسير على أن ذكر الله خطبة الجمعة ، أية خطبة من دون استثناء فيها شرح آية ، أو شرح حديث ، أو بيان حكم ، أو معالجة موضوع إسلامي ، فهذا الذي يصلي، ويحضر خطبة جمعة ، وأخذ منها آية واحدة ، لو أنه بلغ هذه الآية طوال الأسبوع مع من يعرف، مع أقربائه ، مع أولاده الصغار ، مع بناته ، مع زملائه ، مع أصدقائه ، مع جيرانه ، مع من يلتقي ، في ندوة ، في سفرة ، في وليمة ، يكون قد أدى هذه العبادة ، الدعوة إلى الله كفرض عين، أما الدعوة إلى الله كفرض كفاية فهذه مهمة العلماء المتفرغين المتخصصين الذين آتاهم الله فكراً عميقاً ، ونفَساً طويلاً في الدعوة ، وفصاحة ، وبياناً ، وتفرغوا لشأن الدعوة ، هؤلاء معهم كل الأدلة التفصيلية ، ومعهم رد على كل الشبهات التي تطرح على الإسلام ، هؤلاء الدعاة الكبار مهمتهم كما قلت قبل قليل فرض كفاية ، إذا قام به البعض سقطت عن الكل ، هذا الموضوع لا يعنينا في هذه الحلقة ، يعنينا الدعوة إلى الله كفرض عين ، المسلم العادي الذي ليس له أي نشاط دعوي إذا خرج عن مبادئ فطرته ، أو عن منهج ربه يختل التوازن ، فكيف إذا خرج من يدعو إلى الله ولو دعوة بمستوى فرض العين عما يقول ؟ إن اختلال توازنه أشد وأكبر .الأستاذ زياد :
بمعنى آخر ، وللتوضيح أكثر ، إنكم تدعون المسلم الذي يدعو لنقل أهل بيته وأولاده إلى أداء الصلاة ، والالتزام بما أمر الله به ، وهو يعمل عكس ذلك ، هنا يختل توازنه ، وهذا ما يظهر من اختلال توازنه الداخلي .
عظمة الأنبياء أنهم كانوا قدوة للناس سرائرهم كعلانيتهم :
الدكتور راتب :
كما قال سيدنا علي : " بين الحق والباطل أربعة أصابع " ، بين أن تقول : رأيت ، وبين أن تقول : سمعت ، الحقيقة أن الناس لا يتعلمون بآذانهم ، بل بعيونهم ، لغة العمل أبلغ من لغة القول ، لو أن أباً متكلماً فصيحاً ألقى على ابنه ألف محاضرة في الصدق ، كل هذه المحاضرات تهدم إذا قال لابنه : إذا طرق الباب أحدٌ فقل له : أنا لست هنا في البيت ، فالإنسان لا يتعلم إلا بعينيه ، لذلك عظمة الأنبياء أنهم كانوا قدوة للناس ، كانوا مثلاً عليا ، ولا ينجح أبٌ في تربية أولاده إلا إذا كان قدوة لأولاده ، ولا ينجح معلم في تربية تلاميذه إلا إذا كان قدوة لهم ، جاء إلى البشرية آلاف المصلحين ألفوا الكتب ، لكن لم يحدثوا شيئاً في المجتمع ، لكن الأنبياء وهم قلة فعلوا فعل المعجزات لسبب بسيط جداً ، أنهم فعلوا ما قالوا ، لم يجد المدعو مسافة يبن أقوالهم وأفعالهم ، لم يجد مسافة بين سرائرهم وعلانيتهم .
الأستاذ زياد :
فضيلة الشيخ الدكتور محمد رابت النابلسي ، عنوان هذه الحلقة وموضوعها علاقة التوبة ، وثبات التوبة النصوح الصادقة مع الدعوة إلى سبيل الله ، وبخاصة المسلم العادي الذي بحقه الدعوة إلى سبيل الله فرض عين ، في حدود ما يعلم ، وبحق من يعرف ، ما علاقة ذلك بالتوبة وثبات التوبة ؟
التطبيق والإخلاص يهبان الكلام قوة تأثيرية عجيبة :
الدكتور راتب :
لأنه والله أعلم حينما سعد بقرب الله عز وجل ، فإذا خالف ما يدعو إليه اختل توازنه فشعر بضيق ، والحقيقة الدعوة إلى الله لا تقوم على معلومات فحسب ، بل تقوم على روحانية أساسها الاتصال بالله ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، الدعوة إلى الله لا يتمتع بمعلومات دقيقة ، بقدر ما يحتاج إلى صلة بالله عز وجل ، والحقيقة الثابتة الصارخة أن الإنسان لمجرد أن يقع في ذنب فقد حجب عن الله ، فإذا وقع من يدعو إلى الله لا سمح الله ولا قدر في مخالفة حجب عن الله ، وأصبح يتكلم مما في دماغه من معلومات ، وعندئذ لا يؤثر .
الحقيقة أن الدعوة إلى الله أساسها إحداث أثر في المستمعين ، هذا الأثر لا يتأتى من معلومات دقيقة تحفظها ، بل يتأتى من حال مع الله تكتسبه من خلال اتصالك به ، فأنا أقول : لا يمكن أن يحدث أثراً في مجتمعه إلا بشرطين ، أن يكون مطبقاً لما يلقي على الناس ، وأن يكون مخلصاً فيما يلقي على الناس ، التطبيق والإخلاص يهب الكلام قوة تأثيرية عجيبة ، فكم تجد من عالم ينطوي على علم غزير ، ولأنه ليس مطبقاً لعلمه لا يحدث أثراً ولا في طفل صغير ، بينما الذي ينطوي على معلومات متواضعة ، لكنه مطبق لها بالتمام والكمال ، إذا نطق بها هز الصخر ، وهز أعتى الأشخاص ، وأثّر في أقسى القلوب ، القضية قضية تطبيق وإخلاص ، فالذي يدعو إلى الله يحتاج إلى هذا الإخلاص وهذا التطبيق ، وإلا اختل توازنه أشد مما يختل توازن المسلم إذا خرج عن منهج ربه أو مبادئ فطرته .
خاتمة وتوديع :
الأستاذ زياد :
وهذا ما سنفصله بحديث عملي وتطبيقي لهذا الأمر ، علاقة ثبات التوبة النصوح بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في الحلقة المقبلة غداً بإذن الله .
أشكركم فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، إلى اللقاء في الغد بإذن الله تعالى ، أشكر الأخوة المستمعين لحسن إصغائهم ومتابعتهم ، حتى الملتقى ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .